المادة    
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعــد:-
رأى بعض الإخوة الكرام -أثابهم الله- أن نحدثهم عن موضوع مهم وعظيم، وهو مقومات المجتمع المسلم، وليس بإمكاننا أن نحيط بهذه القضية ولا بهذا العنوان من جميع جوانبه، ولكن نظراً لما تعيشه هذه الأمة اليوم من فقدانٍ لمقومات اجتماعها وذهابٍ لشخصيتها وذاتيتها التي تميزها بين الأمم، فنحن في حاجة بلا ريب إلى أن نعرف مقومات مجتمعنا -ولو على سبيل الإجمال- التي يفترق بها عن غيره من مجتمعات الكفر والضلالة، فإن الدنيا اليوم قد تقاربت، تقارب الزمان والمكان، نتيجة وسائل الإعلام ووسائل الاتصال والنقل، حتى أصبحت -كما يسمونها- قرية إعلامية، فأصبحت الأمة الإسلامية أحوج من ذي قبل إلى معرفة مقومات اجتماعها، مع ما اعتراها من ضعفٍ وتراخٍ وتحللٍ وافتراقٍ وغير ذلك؛ من دواعي ضرورة معرفة مقومات هذا المجتمع المؤمن الذي ميزنا الله -تبارك وتعالى- وشرفنا به .
إن مقومات المجتمع المسلم هي القضية الأولى التي لا يمكن أن نتجاوزها في الحديث أبداً.
إننا عندما نتحدث عن المقومات، فإننا نتحدث عن أول الواجبات، وعن أول ما فرض الله -تبارك وتعالى-، مما جاءت به رسل الله الكرام، وإن مما يجب علينا أن نصرف همنا في الدعوة إليه هو توحيد الله وحده لا شريك له، فهذه أعظم ميزة وأعظم مقوم، وأول منازل الطريق التي لا يجوز ولا ينبغي بحالٍ من الأحوال أن نتجاوزها أبداً.
إن الإسلام إنما أُخِذَ من الاستسلام لله تبارك وتعالى بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، والبراءة من الشرك، وأهله، وهذه دعوة الله تبارك وتعالى بعث بها أنبياءه جميعاً، فما من نبي بعثه الله تبارك وتعالى إلا قال لقومه: ((اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ))[المؤمنون:23] كما قص الله -تبارك وتعالى- علينا من كلام أنبيائه فقال: ((وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ))[الأنبياء:25]، ((وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ))[النحل:36] ((أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ))[هود:2]، وغير ذلك من الآيات، وكذلك لما بعث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رسوله معاذ بن جبل الصحابي الجليل والداعية العظيم إلى اليمن قال له: {فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله} وفي رواية: {إلى عبادة الله} وفي رواية {إلى توحيد الله} وكلها روايات صحيحة تدل على أن المعنى واحد كما سمعنا في الآيات .
إن أساس القضايا وأولها جميعاً هو الدعوة إلى شهادة أن لا إله إلا الله، أي: إلى توحيد الله، وأن لا يعبد إلا الله -تبارك وتعالى- والتي عليها جاهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعليها أُسِسَ هذا البيت الذي شرفت به هذه المدينة، بل شرفت به الدنيا كلها، كما قال تعالى: ((وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً)) [الحج:26] فالأساس هو ترك الشرك، والبراءة منه ومن أهله.
وهذه البلدة الطاهرة -والحمد لله- قامت على ذلك وستظل كذلك بإذن الله، فلقد انتشر نور الإيمان والتوحيد حتى عم ما شاء الله تبارك وتعالى أن يعم مما زوى الله تبارك وتعالى من الأرض لنبيه محمدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأراه كيف سيبلغ ملك أمته، وأين تبلغ دعوته، كما بشَّر صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن هذا الدين سيبلغ ما بلغ الليل والنهار، وهذا الدين هو التوحيد.
  1. التحاكم إلى شرع الله

    إن هذا المقوم هو جزء من التوحيد، وهو مقوم مهم من مقومات المجتمع المسلم الذي يحفظ له انتماءه وتحقيقه لإسلامه وانتسابه إليه، ألا وهو التحاكم إلى شرع الله تعالى، وإن من أعجب العجب أن المسلمين في العصور المتأخرة يدّعون الإسلام اسماً، ولكنهم أتوا بعقائد ونحل ومبادئ وضعية سواءً أكانت شرقية أم غربية، ثم جعلوا هذه العقائد هي التي يستمدون منها المناهج والقيم والمعايير في الاقتصاد والسياسة والإعلام وسائر جوانب الحياة، وحصروا دين الله والعبادة والتوحيد، وضيقوا عليها في شعائر معينة، فتوهم العامة أن في إمكان الإنسان أن يكون موحداً أو عابداً؛ ومع ذلك يعتقد بعض هذه العقائد، كأن يكون اشتراكياً أو ديمقراطياً أو بعثياً أو ما أشبه ذلك من الضلالات والكفريات، عياذاً بالله تبارك وتعالى .
    إن التحاكم إلى ما أنزل الله، ونبذ كل شرعةٍ تخالف شريعة الله، هو جزءٌ من توحيد الله -تبارك وتعالى- ومن عبادته وحده، ففي سورة الأنعام ذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هذه القضايا وفَّصل فيها، فجعل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى اتخاذ الولي والحَكَم من دونه، كل ذلك لا يجوز ولا يليق، وإنما الولي والرب والإله والحَكَم هو الله وحده لا شريك له، فقال تعالى: ((وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ))[الشورى:10]، وقال: ((أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ))[الشورى:21]، وقال: ((أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً )) [النساء:60]، ((وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ)) [المائدة:44]، وفي الآية الأخرى: ((فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ))[المائدة:45]، وفي الثالثة: ((فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)) [المائدة:47]، وغير ذلك من الآيات التي تدل على أن من أهم مقومات المجتمع المسلم وتحقيقه لتوحيد الله أن يكون الحكم لله تبارك وتعالى بالرد إلى كتاب الله وإلى سنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
  2. عدم تقديم أمر بين شرع الله ورسوله

    إن ذلك يشمل أيضاً ترك التعصب المذموم المقيت لآراء الرجال، والتأدب مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومع سنته، وألا يقدم بين يدي الله ورسوله كلام أحدٍ كائناً من كان، وإن كان صحابياً جليلاً أو إماماً متبوعاً أو عالماً مجتهداً، فالتقديم والاعتماد والاستدلال إنما يكون أولاً من كلام الله ثم كلام رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم ما وافقهما، وإذا كانت المسألة موضع اجتهاد وتنازع فقد أُمِرْنَا أن نرد النزاع إلى الله وإلى الرسول فيما وقع فيه التنازع، ثم يجتهد كلٌ منا في تحقيق ما أمر الله، وما حكم به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبعد ذلك لا مانع من أن تختلف الاجتهادات.
    إذا اتفقنا على منهج الاستدلال، ومنهج الاستمداد والتلقي من الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لم نقدم عليه قول أحد كائناً من كان، لا شيخ طريقة كما يفعل الضلال من الصوفية وأمثالهم، ولا رأي متكلم كما يفعل أهل الكلام من المعتزلة والأشعرية وأشباههم، ولا كلام الأئمة المزعومون أنهم معصومون -كما يفعل الروافض والباطنية وأشباههم-، ولا المذاهب الوضعية الباطلة التي انتسب إليها كثير من المسلمين في هذا الزمان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
    إن المجتمع المسلم هو المجتمع الذي يحكمه شرع الله، ودين الله، وتقام فيه حدود الله، كما شرع الله، ولن يقوم هذا المجتمع أبداً إذا لم تقم فيه حدود الله -كما شرع الله- على الشريف والضعيف وعلى الرفيع والوضيع، وأن تقام لوجه الله تبارك وتعالى لا من أجل رياءٍ ولا سمعة، ولا لمجرد الحفاظ على الأمن والحياة -وإن كانت مطلوبة- ولكن الأساس من ذلك هو عبادة الله تبارك وتعالى ولا يصح إيمان المجتمع إلا بتحقيق هذه العبادة، كما قال تعالى: ((فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً)) [النساء:65] .
    ولو نظرنا إلى مجتمعاتنا التي انحرفت عن شرع الله وأتت بالقوانين الوضعية، كيف حالها؟
    وكيف مآلها من التفسخ والتفكك؟!
    حتى أصبحت كلمة الإسلام إذا أطلقت غريبة عندهم، ومن يدعو إلى الإسلام أصبح غريباً في بعض المجتمعات التي تدَّعي أنها إسلامية والله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
    فالواجب على جميع المسلمين أن يتحاكموا إلى ما أنزل الله -تبارك وتعالى- وقد أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن ترك التحاكم إلى الشرع من أسباب هلاك الأمم فقال: {إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق - وهذا ينطبق على غير السرقة - فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد} فإذا كانت إقامة الحدود على بعض الناس دون بعض، والمحاباة فيها والمجاملة فيها سبباً للهلاك، فما بالكم إذا نُحيِّ شرع الله تبارك وتعالى بالكلية، واحتكم إلى الدساتير الوضعية التي يضعها البشر، كما عبَّر عنها سماحة الإمام الشيخ الداعية محمد بن إبراهيم رحمة الله تعالى عليه المتوفى عام (1389م) -مفتي هذه الديار قبل سماحة الوالد الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله والذي سمى هذه القوانين: ''زبالة الأذهان، وحثالة الأفكار''
    فهم يضعون ويغيرون ويبدلون كما يشاءون، ويأمرون الناس أن يحتكموا إليها، ويطلبون منهم ذلك، ويلزمونهم بها إلزاماً، ولذلك فإنه -رحمه الله- جعل فتح المحاكم الوضعية وتهيئتها للناس، وأن يكون لها سجلات ومراجع ومستمدات كما للمحاكم الشرعية، نوعاً من أنواع الكفر الأكبر، ذكر ذلك في رسالته القيمة على صغر حجمها رسالة تحكيم القوانين.